المحكمة الاتحادية العليا
جلسة الثلاثاء الموافق 27 من إبريل سنة 2020
برئاسة السيد القاضي/ محمد حمد البادي- رئيس المحكمة،
وعضوية السادة القضاة/ شهاب عبد الرحمن الحمادي وفلاح شايع الهاجري ومحمد عبد الرحمن الجراح والبشير بن الهادي زيتون.
طلب التفسير رقم 2 لسنة 2020 دستوري
المحكمة
حيث إن الوقائع- على ما يبين من الأورق- تتحصل في أنه بتاريخ 16/ 4/ 2020 أودع رئيس المجلس الوطني الاتحادي، مكتب إدارة الدعوى بالمحكمة الاتحادية العليا صحيفة طلب تفسير مواد دستور الاتحاد (75، 86، 87) التي جرى نصها على النحو الآتي: 1) المادة 75 “يعقد المجلس جلساته في مقر عاصمة الاتحاد، ويجوز استثناء أن ينعقد في أي مكان آخر داخل الاتحاد، بناء على قرار يتخذه المجلس بأغلبية أعضائه جميعًا وبموافقة مجلس الوزراء”، 2) المادة 86 “جلسات المجلس علنية، وتنعقد الجلسات سرية إذا طلب ذلك ممثل الحكومة، أو رئيس المجلس أو ثلث أعضائه”، 3) المادة 87 “لا تكون مداولات المجلس صحيحة إلا بحضور أغلبية أعضائه على الأقل، وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة لأصوات الأعضاء الحاضرين، وذلك في غير الحالات التي يشترط فيها أغلبية خاصة، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي فيه رئيس المجلس” على سند من أن جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19) أدت إلى وجود مجموعة من الصعوبات التي تواجه المجلس الوطني الاتحادي في أداء مهامه الدستورية والبرلمانية من خلال عقد جلساته المعتادة في مقر العاصمة أبو ظبي خصوصًا ما يتعلق بهذه المهام من مناقشة مشروعات القوانين المعروضة عليه، ومنها ما يجب نظره على وجه الاستعجال في هذه الظروف طبقًا للنظم القانونية المعمول بها أمام المجلس، ولما تتطلبه الحكومة من إنجاز بعض المشروعات التي تستلزمها ظروف المرحلة الحالية، وقد تمثلت هذه الصعوبة في عدم إمكانية عقد المجلس لجلساته العامة، نظرًا للخطورة الصحية الكبيرة، وللحفاظ على سلامة رئيس وأعضاء المجلس وكل من يشاركون بحكم مهامهم الوظيفية في جلسات المجلس العادية والتي تضم ما لا يقل عن 55 عضوًا في مكان واحد مغلق، وإزاء هذه الظروف الطارئة يعتزم المجلس أن يعقد جلساته عن بعد وبوسائل التقنية الحديثة، وحتى يتم توفير كل الضمانات الدستورية فإن الأمر يستلزم تفسير النصوص الدستورية سالفة البيان سواء فيما يتعلق بكيفية انعقاد جلسات المجلس عن بعد وفي مكان آخر غير مقر العاصمة وحصول أغلبية أصوت الأعضاء وموافقة مجلس الوزراء على هذا الاستثناء وفق ما تتطلبه المادة 75 المذكورة أو فيما يتعلق باستعمال وسائل التقنية الحديثة مثل نشر أعمال الجلسة في وسائل الإعلام بما يحقق علنية جلسات المجلس، أم ضرورة حضور الجمهور تلك الجلسات كضمانة أساسية لمبدأ العلانية ولكونه إجراء جوهريًا يترتب على مخالفته البطلان وذلك على النحو الذي تقتضيه المادة 86، وكذلك فيما يتعلق بمدى توافر أغلبية أعضاء المجلس عند حضورهم مداولاته وصدور القرارات بالأغلبية المطلقة لأصوات الأعضاء الحاضرين، وذلك في غير الحالات التي يشترط فيها أغلبية خاصة، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي فيه رئيس الجلسة.. وذلك كله عندما يباشر المجلس هذه الإجراءات عن بعد بوسائل التقنية الحديثة… وانتهى رئيس المجلس في ختام الصحيفة إلى طلب الحكم بتفسير المواد (75 و86 و87) من الدستور بما يبرر للمجلس انعقاد جلساته عن بعد باستخدام وسائل التقنية الحديثة نزولاً على أحكام حالة الضرورة ومبررات الظرف الطارئ والاستثنائي الذي يقتضي ذلك.
وإذ عرض طلب التفسير على سعادة رئيس المحكمة فعين القاضي/….. لتحضير الدعوى. وإذ تداولت الدعوى أمام قاضي التحضير، وقدمت النيابة العامة مذكرة فوضت فيها الرأي للمحكمة.
وحيث إن المحكمة- وهي بصدد بحث طلب التفسير- تنوه ابتداء إلى أنها تستمد اختصاصها بنظر طلب التفسير الدستوري من المادة 99/ 4 من دستور دولة الاتحاد والمادة 33/ 5 من قانون إنشاء المحكمة الاتحادية العليا رقم 10 لسنة 1973 وأن اختصاصها هذا إنما يقتصر نطاقه على تفسير أحكام الدستور، ولا يمتد إلى تفسير نصوص القوانين التي لا تواجهها المحكمة إلا عن طريق البحث في دستوريتها طبقًا للأوضاع المقررة بالدستور كما تؤكد المحكمة كذلك أن طلب التفسير الدستوري لا يتسم بالطابع القضائي الذي يقوم على الادعاء والدفاع وحسم خلاف احتدم بين طرفين، وإنما تباشر الدائرة الدستورية بهذه المحكمة نظر الطلب عندما يقدم لها من حكومة الاتحاد أو من إحدى سلطاته أو من حكومات إمارات الاتحاد لتفسير نص دستوري معين لاستجلاء معانيه ومقاصده، بغية ضمان وحدة تطبيقه، وأنه ليس بلازم أن يصل الأمر إلى حد الخلاف المحتدم أو المنازعة بالمعنى المعروف في قانون الإجراءات المدنية إذ في تطلب ذلك قيد لم يتضمه الدستور أو قانون إنشاء المحكمة، بل يكفي أن يدور حول نص دستوري أكثر من رأي على نحو يغم معه مقتضى حكمه على النحو الذي أراده وقصده المشرع الدستوري، ليسوغ معه الالتجاء إلى هذه المحكمة بغية تجلية الغموض الحاصل في هذا النص وذلك ضمانًا لوحدة التطبيق الدستوري واستقراره، ومن ثم فإن طلب تفسير الدستور لا يعدو أن يكون طلبًا عينيًا يستهدف طالبه من المحكمة تجلية ما يكون قد ران على النص المطلوب استيضاحه من غموض أو لبس، وأن طلب التفسير- بهذه المثابة- إنما يحتاج إليه بقدر ما يطرأ من وقائع تستلزم تفسيره فينظر إليه بالمعنى الواسع سواء بما يكتنف النص من غموض أو بما لا يكفي ظاهرة لمعالجة ما استجد من وقائع طارئة لم تكن في حسبان المشرع حال وضعه، وعليه فإن طلب التفسير إنما يمتد إلى أبعاد النص ومقتضياته التي لا يعالجها ظاهره وإنما يعالجها ما يتضمنه النص في ثناياه من علل وما يحمل طياته من أحكام تواجه ما استجد من وقائع طارئة.
والمحكمة- في مجال تفسير نصوص الدستور- إنما تتحدد ولايتها في توضيح ما أبهم من عبارات النص محل التفسير، واستخلاص دلالته وفقا لمناهج التفسير، تحريا لمقاصد هذا النص، ووقوفا عند الغاية التي استهدفت من تقريره والغرض المقصود منه ومحمولاً عليه، لما كان ذلك، وكانت المواد 75 و86 و87 من الدستور محل طلب التفسير قد أثارت عند تطبيقها في ظل الظروف الطارئة المتمثلة بجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19) تفسيرات وآراء متباينة حول عقد جلسات المجلس الوطني الاتحادي عن بعد باستخدام وسائل التقنية الحديثة بخصوص (انعقاد المجلس في مقر عاصمة الاتحاد، علانية جلسات المجلس ومداولاته السرية، حضور أغلبية الأعضاء والتصويت) وهو ما يستلزم وضع تفسير دقيق يحسم أي نزاع أو اختلاف بشأن مقاصد ومقضيات المواد المذكورة ويكون ملزمًا للكافة لتحقيق التوازن بين الهدف الذي قصده الدستور من تلك النصوص وإنفاذها وتطبيقها على نحو صحيح دون تزيد. وأنه إزاء الجائحة الخطيرة التي عصفت بكافة دول العالم وبالنظر إلى الظروف الطارئة التي تعيشها دولة الإمارات نتيجة وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19) وما يحدثه من مخاطر وخيمة على البشر تصيبهم في صحتهم وتهدد حياتهم فضلا عن الأضرار التي قد يلحقها بمكونات الوطن بكافة صورها، يستوى أن تكون هذه المخاطر من طبيعة مادية أو أن يكون قيامها مستندًا إلى ضرورة تدخل الدولة بتنظيم تشريعي أو اتخاذ تدابير وقائية تكون لازمة وبصورة عاجلة لا تحتمل التأخير لمواجهة تلك الحالة الطارئة الاستثنائية المتمثلة بانتشار الفيروس السالف البيان، وتلك هي حالة الضرورة التي دفعت الدولة إلى مواجهة أوضاع قاهرة أو ملحة خلال تلك الفترة العصيبة وتلجئها إلى الإسراع في اتخاذ تلك التدابير ويكون تدخلها بها وتطبيقها لها مبررًا بحالة الضرورة ودواعي الصحة العامة تجاه هذا الفيروس، مستندًا إليها وبالقدر الذي يكون متناسبًا مع متطلبات المرحلة التي تمر بها الدولة في ظل استمرار خطر الفيروس المذكور، بوصفها تدابير من طبيع استثنائية تمليها طبيعة المرحلة الراهنة وتقتضيها، وهذه الضرورة يسوغ معها استعمال الوسائل الإجرائية والوقائية التي من شأنها درع المخاطر الوبائية التي قد تصيب الإنسان في صحته وتحصد الأنفس التي يعد حفظها من المقاصد الشرعية الكبرى ومن بين تلك الوسائل التي استعملتها جميع مؤسسات الدولة في أدائها الحكومي والمؤسسي التواصل بين موظفيها أو المتعاملين معها عن بعد، بوسائل التقنية الحديثة والتواصل المرئي خشية إصابتهم بعدوى فيروس كورونا وتفادي آثاره الوخيمة حال تواجدهم مجتمعين في مكان واحد. وإذ كانت الحالة الطارئة والضرورة الملحة التي فرضها هذا الفيروس قد توافرت موجباتها وحالاتها الاستثنائية بالمجلس الوطني الاتحادي سواء فيما يتعلق بجلساته وكيفية انعقادها والحصول على رأي أغلبية أعضائه وتحقق مبدأ علانية الجلسات أو سريتها وذلك كله على النحو الذي بينته نصوص المواد 75 و86 و87 من دستور دولة الإمارات، وإزاء تلك الحالة الاستثنائية الطارئة فإن المجلس الوطني الاتحادي ليسوغ له المبرر في أداء مهامه البرلمانية والتشريعية على سبيل الاستثناء، عن بعد باستعمال وسائل التقنية الحديثة بما يتفق مع طبيعة المرحلة الآنية والطارئة التي تمر بها الدولة على أن يكون نطاق هذا الاستثناء رهنا ببقاء الحالة الطارئة ويدور في فلكها وجودًا وعدمًا وليس في ذلك ما ينطوي على مساس بالنصوص الدستورية السالفة البيان بالنظر إلى فحوى خطابها وأبعاد حكمتها التي استهدف الدستور من سنها بما يقتضي تفسيرها على النحو الذي أرسته المحكمة في أسبابها على نحو ما تقدم.